خاض بحيرةَ النور، قبل أن تتدفق جداولُها، من على جبل حراء، بعد أن شرب ملياًّ من زمزم، حيث قدما جده إسماعيل، تضربان التراب، بجوار قدمَيْ أبيه إبراهيمَ على المَقام.
ولد يتيما .. فآواه الله بجوار بيته المحرم، وفناء رحب، من دار السؤدد والمودة والرحمة، لكن الغار، كان هو المأوى الآخر، الذي ضمه أياما وليالي، فمن العزلة تولد السكينة .. والصعود على الجبل، والتسامي على ضجيج المتمسحين بالأصنام، يتيح له النظر إلى البيت المقدس من بعيد.
يصعد بهمة الشاب، المتطلع إلى النظر الأفقي، الممتد إلى الأشياء كلها .. إلا البيتَ العتيق، فله بُعْدٌ خاصٌّ للتأمل، لعله يجسد المشهد البعيد، في تجلٍّ قادم للرؤيا الصادقة: “لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين”.
مشهد خلوي: عن دخول النبي عليه السلام مكة عام الفتح منكسا رأسه حتى تكاد لحيته تمس ظهر البعير.
في صميم هذه النفس الوادعة، محامدُ فطرةٍ تتجه بها إلى مواضئ النور، وأسرارٌ راحلة بطهرها من رُوح النفخة الأولى، إلى حيث استقرت بها النَّوى في كينونة مصطفاة.
كل جبال مكة، لا تتساوى مع هذا المَقام، شيءٌ آخر، غيرُ القربِ وذكرياتِ الطفولة، وأمرٌ آخر، غيرُ شموخِ الجبل، يلبي هذا الشعور المتنامي إلى أن تعاظم في نفسه، وتكاثف في روحه حتى بدأت تتوثب.
وحده حراء، يتوازى مع تيار الأنس بالخلوة والتفرد، لقد انتخبه من رحلة بحث أربعينية.
سيكتفي بالطعام اليسير، ويشرب قليلاً من ماء زمزم، ربما أعادت عليه لاحقا سورة الكوثر، ذكرى نبعه الأول، ووصلته بنبع الخلود الآخِر ..
لأي حكمة تقوده يد الأقدار ؟!
وبأي صياغة تنشئه يد العناية ؟!
هل هو البحث عن الحقيقة السامية ؟
أم أن الفطرة، تكفلت برحلة أقدمَ نحو الإيمان ؟
أم الاصطفاء، شأنٌ خارجَ حدودِ الوعيِ والإدراك ؟
في الغار، للصبح بكور وإحساس، وللأصيل جمال لونه الذهبي، ولليل ومضات النور الساجدة، وفي امتداد الساعات صوت العقل ونداء الروح..
كان يعي تماما، لغةَ الضحى والليل إذا سجى .. لقد نزلت عليه – حين نزلت – كالماء البارد للظمآن، وغمرته بالاطمئنان ..
الحقيقة .. تجلت من قبل، وما بقي إلا المتعة بمعرفة الحقيقة، حيث الدهشة الغامرة تحلق به للأعلى.
هناك إنصات للكائنات، ما عدا الإنسان، فقد استمع إليه سنين، وهنا إصغاء إلى محيط الإنسان، من الشجر والحجر، لعل لغتها تتطابق مع هذا الإحساس والنور.
أحبَّ الجبلَ والوادي، والبيتَ العتيق، كلها لها نداء خاص..
حين يصفو كل شيء، يصحو كل شيء.
هناك إطلالة على ميدان الحياة الصامتة، التي تتحدث دون كلل، ليكون الإصغاء إليها آمنا.
تأملٌ مستغرق، وتسامٍ على المادة، ووصالٌ خفي مع البيت العتيق، وأنسٌ مع الوحدة، وقربٌ من السماء، كلها سحب تظلل العقل والروح والجسد، في آنٍ واحد.
ناصر بن سليمان السابعي
اكتشاف المزيد من الاستقامة للحج والعمرة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.